بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( واستعن بالله ) : ما أروع هذه الكلمة بعد قوله (احرص على ما ينفعك ) لأن
الإنسان إذا كان عاقلاً ذكياً فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ويجتهد ،
ويحرص ، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله ، وهذا
يقع لكثير من الناس ، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به ،
فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصاً على النافع وفعلاً له ، أعجب
بنفسه ونسى الاستعانة بالله ، ولهذا قال : ( أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ) أي لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير ، وفي الحديث : (ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح ، وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع )(61) يعني
حتى الشيء اليسير لا تنس الاستعانة بالله عز وجل ، حتى ولو أردت أن تتوضأ
أو تصلى أو تذهب يميناً أو شمالاً أو تضع شيئاً فاستحضر أنك مستعين بالله
عز وجل ، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء .
ثم قال : ( ولا تعجز
) يعني استمر في العمل ولا تعجز وتتأخر ، وتقول : إن المدى طويل والشغل
كثير ، فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله
وشرعت فيه فلا تعجز .
وهذا
الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات يتكلم عليه فيها الإنسان ؛ لأن له من
الصور والمسائل ما لا يحصى ، منها مثلاً طالب العلم الذي يشرع في كتاب يرى
أن فيه منفعة ومصلحة له ، ثم بعد أسبوع أو شهر يمل ، وينتقل إلى كتاب آخر
، هذا نقول عنه : إنه استعان بالله وحرص على ما ينفعه ولكنه عجز ، كيف عجز
؟ بكونه لم يستمر ، لأن معنى قوله : ( لا تعجز ) أي
لا تترك العمل ؛ بل ما دمت دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه ، ولذا تجد
هذا الرجل يمضي عليه الوقت ولم يحصل شيئاً ؛ لأنه أحياناً يقرأ في هذا ،
وأحياناً في هذا .
حتى
في المسألة الجزئية ؛ تجد بعض طلبة العلم مثلاً يريد أن يرجع مسألة من
المسائل في كتاب ، ثم يتصفح الكتاب ، يبحث عن هذه المسألة ، فيعرض له
أثناء تصفح الكتاب مسألة أخرى يقف عندها ، ثم مسألة ثانية ، فيقف عندها ،
ثم ثالثة ، فيقف ، ثم يضيع الأصل الذي فتح الكتاب من أجله ، فيضيع عليه
الوقت ، وهذا ما يقع كثيراً في مثل فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه
الله ـ تجد الإنسان يطالعها ليأخذ مسألة ، ثم تمر مسألة أخرى تعجبه وهكذا
، وهذا ليس بصحيح ؛ بل الصحيح أن تنظر الأصل الذي فتحت الكتاب من أجله .
كذلك
أيضاً في تراجم الصحابة ، في الإصابة ـ مثلاً ـ لابن حجر ـ رحمه الله ـ
حين يبحث الطالب عن ترجمة صحابي من الصحابة ، ثم يفتح الكتاب من أجل أن
يصل إلى ترجمته ، فتعرض له ترجمة صحابي آخر ، فيقف عندها ويقرؤها ، ثم
يفتح الكتاب ، يجد صحابياً آخر ، ثم هكذا يضيع عليه الوقت ولا يحصل
الترجمة التي من أجلها فتح الكتاب ، وهذا فيه ضياع للوقت .
ولهذا
كان من هدي الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من
أجله ، ولذلك لما دعا عتبان بن مالك الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال له :
أريد أن تأتي لتصلي في بيتي ؛ لأتخذ من المكان الذي صليت فيه مصلى لي ،
فخرج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعه نفر من أصحابه ، فلما وصلوا ،
إلي بيت عتبان واستأذنوا ودخلوا ، وإذا عتبان قد صنع لهم طعاماً ، ولكن
الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يبدأ بالطعام ، بل قال : ( أين المكان
الذي تريد أن نصلي فيه ؟ ) فأراه إياه ، فصلى ، ثم جلس للطعام(62) ، فهذه
دليل على أن الإنسان يبدأ بالأهم ، وبالذي تحرك من أجله ؛ من أجل ألا يضيع
عمله سدى .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تعجز )
أي لا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه ، بل استمر ؛ لأنك إذا تركت ثم
شرعت في عمل آخر ، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت ، ما تم لك عمل .
ثم قال ـ عليه الصلاة والسلام : ( فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ) ويعني
بعد أن تحرص وتبذل الجهد ، وتستعين بالله ، وتستمر ، ثم يخرج الأمر على
خلاف ما تريد ، فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا لأن هذا أمر فوق إرادتك ،
أنت فعلت الذي تؤمر به ، ولكن الله ـ عز وجل ـ غالب على أمره ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)..
ونضرب
مثالاً لذلك : إذا سافر رجل يريد العمرة ، ولكنه في أثناء الطريق تعطلت
السيارة ، ثم رجع فقال : لو أني أخذت السيارة والأخرى لكان أحسن ، ولما
حصل على التعطل ، نقول : لا تقل هكذا ؛ لأنك أنت بذلت الجهد ، ولو كان
الله ـ عز وجل ـ أراد أن تبلغ العمرة ليسر لك الأمر ، ولكن الله لم يرد
ذلك .
فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أمر ببذله ، وأخلفت الأمور ؛ فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ؛ لأنه فعل ما يقدر عليه ، ولهذا قال : ( إن أصابك شيء ) يعني بعد بذل الجهد والاستعانة بالله ـ عز وجل ـ ( فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا كَذا ) .
وجزى الله عنا نبينا خير الجزاء ؛ فقد بين لنا الحكمة من ذلك ، حيث قال : (فإن لو تفتح عمل الشيطان )
أي تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم ، حتى تقول : لو أني فعلت
لكان كذا . فلا تقل هكذا ، والأمر انتهى ، ولا يمكن أن يتغير عما وقع ،
وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف
سنة ، وسيكون على هذا الوضع مهما عملت .
ولهذا قال ( ولكن قل : قدر الله ) أي هذا قدر الله ، أي تقدير الله وقضاؤه ، وما شاء الله ـ عز وجل ـ فعله ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (هود:107) ، لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء ، ما شاء فعل ـ عز وجل .
ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى ـ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة خفيت علينا أو ظهرت لنا ، والدليل على هذا قوله تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الإنسان:30) ،فبين أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم ، وكم من شيء كره الإنسان وقوعه ، فصار في العاقبة خيراً له ، كما قال تعالى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (البقرة:216) ..
ولقد
جرت حوادث كثيرة تدل على هذه الآية ، من ذلك : قبل عدة سنوات أقلعت طائرة
من الرياض متجهة إلى جدة ، وفيها ركاب كثيرون ، يزيدون عن ثلاثمائة راكب ،
وكان أحد الركاب الذين سجلوا في هذه الطائرة في قاعة الانتظار ، فغلبته
عيناه حتى نام ، وأعلن عن إقلاع الطائرة ، وذهب الركاب وركبوا ، فإذا
بالرجل يستيقظ بعد أن أغلق الباب ، فندم ندامة شديدة ؛ كيف فاتته الطائرة
؟ ثم إن الله قدر بحكمته أن تحترق الطائرة وركابها . فسبحان الله ! كيف
نجا هذا الرجل ؟ كره أنه فاتته الطائرة ، ولكن كان ذلك خيراً له .
فأنت
إذا بذلت الجهد ، واستعنت بالله ، وصار الأمر على خلاف ما تريد ، لا تندم
، ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا ، إذا قلت هذا انفتح عليك من الوساوس
والندم والأحزان ما يكدر عليك الصفو ، فقد انتهى الأمر وراح ، وعليك أن
تسلم الأمر للجبار ـ عز وجل ـ قل : قدر الله وما شاء فعل .
ووالله ، لو أننا سرنا على هدي هذا الحديث لاسترحنا كثيراً ، لكن تجد الإنسان منا :
أولاً : لا يحرص على ما ينفعه ، بل تمضي أوقاته ليلاً ونهاراً بدون فائدة ، تضع عليه سدي .
ثانياً: إذا
قدر أنه اجتهد في أمر ينفعه ، ثم فات الأمر ، ولم يكن على ما توقع ، تجده
يندم ، ويقول : ليتني ما فعلت كذا ، ولو أني فعلت كذا لكان كذا ، وهذا ليس
بصحيح ، فأنت أدّ ما عليك ، ثم بعد هذا فوض الأمر لله ـ عز وجل . "
انتهى كلامه رحمه الله ..
من شرحه رحمه الله لرياض الصالحين ..